ترجمة خاتم الأولياء القطب المكتوم سيدي أبي العباس أحمد التجاني رضي الله تعالى عنه وعنا به

هو سيدي أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم بن العيد بن سالم بن أحمد بن أحمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد الجبار بن إدريس بن إدريس بن إسحاق بن علي زين العابدين بن أحمد بن محمد بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، من السيدة فاطمة الزهراء ، سيدة نساء أهل الجنة ، ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهو الشريف الأصل ، صاحب الفتح الأكبر ، والمقام الأفخم ، القطب المكتوم ، والإمام الأعظم رضي الله عنه.

قيلله : أَيُكذَبُ عليك ؟ .

قال : ﴿نعم ، إذا سمعتم عني شيئا ؛ فزنوه بميزان الشرع . فإن وافق ؛ فاعملوا به . وإن خالف ؛ فاتركوه

فلولا إتباع الشرع ما وصل من وصل ، ومن ترك الأصول حرم الوصول .

فهو الذي لم يشم له الأولياء رائحةً أصلاً . لأنهم دخلوا وخرجوا من باب القدرة ، ومن دخل من باب القدرة لا يرى من هو في المخدع ، يدخل ويخرج من باب السر .

وإن كان رضي الله عنه قد جَوَّع الجوع ، وعَطَّش العطش ، ونَوَّم النوم ، وسَهَّر السهر ، وخَوَّف الخوف ،إلا أن طريقته هي التفويض مع التبري من الحول والقوة ، وتجريد التوحيد ، وتوحيد التفريد مع الحضرة ، في موقف العبودية ، لسر خاص ، مستمد من لحظ كمال الربوبية ،لا بشيء ، ولا لشيء .

كانت طريقته التوحيد وصفاً ، وحكماً ، وحالاً ، تحقيقاً للشرع ، ظاهراً وباطناً ، بقلبٍ فارغٍ ، وكون غائب ، ومشاهدة رب خاص ، بسريرة لا تجاذبها الشكوك ، وسر لا تنازعه الأغيار . 

فهو، رضي الله عنه ، ذو اللسانين والبيانين ، وصاحب البرهانين والسلطانين، وذي السراجين والمنهاجين، وإمام الفريقين والطريقين، له في كل أرض خيل لا تُسبق ، وفي كل جيش سلطان لا يُخالف، وفي كل منصب خليفة لا يُعزل ، ما رفع المصطفى صلى الله عليه وسلم قدماً إلا وضع سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه قدمه في الموضع الذي رفعه منه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون قدماً من أقدام النبوة ، فإنه لا سبيل أن يناله غير نبي .

واعلم أن للإنس مشايخ ، وللجن مشايخ ، وللملائكة مشايخ ، وأما سيدي أحمد التجاني فشيخا للكل .

ملَّكَهُ الله تعالى الأرض، شرقها وغربها، قفرها وعمرانها، برها وبحرها, سهلها وجبلها، إنسها وجنها، تصريفاً وتمكيناً، فتركها واختار العبودية الخالصة، التي ليس فيها شائبة ربوبية ؛ يُنْطِقُهُ اللهُ فينطق ، يعطيه الله فيفـرق ، يأمره فيفعل ، الناس عنده كالقوارير ، بواطنهم كظواهرهم .

جعل الله له أربعة وجوه :

-   وجه ينظر به إلى الدنيا .

-   ووجه ينظر به إلى الآخرة .

-  ووجه ينظر به إلى الخلق .

  ووجه ينظر به إلى الحق .

وصَيَّرَهُ الله تعالى خليفة على أرضه وسمائه وعوالمه ، وقال له : إنك لدينا مكين أمين .

كانت الخوارق تظهر أحياناً فيه ، وتارة منه .

مارآه غيره في منامه ؛ رآه هو في يقظته .

وإن كان - تعالى - قد قال: ﴿ويخلق مالا تعلمون﴾ {النحل : 8} . فهو-رضي الله عنه - مما لا علم لنا به
وممن ترجم للشيخ رضي الله عنه - من غير أهل طريقته - الشيخ محمد البشير ظافر في كتـابه الشـهير : «اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة» فقال : " سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم الشريف التجاني الشهير ، القدوة الكامل ، العارف الراسخ ، جبل السنة والدين ، والعلَّامة الدرَّاكة الفهَّامة ، الجامع بين الشريعة والحقيقة ، نادرة الزمان ، ومصباح الأوان ".

قال عنه الشيخ العلَّامة ، حافظ المغرب ، الشيخ الكتاني : " كان رحمه الله أحد العلماء العاملين ، والأئمة المجتهدين ، ممن جمع بين شرف الجرثومة والدين ، وشرف العلم والعمل واليقين، والأحوال الربانية الشريفة ، والمقامات العلية المنيفة، قوي الظاهر والباطن، كامل المحاسن، بهي المنظر ، جميل المظهر ، منور الشيبة ، عظيم الهيبة ، جليل القدر ، شهير الذكر ، ذو صيت بعيد ، وحال مفيد ، وكلمـة نافذة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اشتغل في بدايته بطلب العلوم الأصولية والفرعية والأدبية ، حتى رأس فيها ، وحصَّل فيها أسرار معانيها . أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين الخلق ، سنة ستة وتسعين ومائة وألف ، ومناقبه رضي الله عنه وأحواله كثيرة ، وتوفي صبيحة الخميس السابع عشر من شوال سنة ثلاثين ومائتين وألف ، وحضر جنازته من لا يُحصى من علماء فاس وصلحائها ، وأعيانها وفضلائها وأمرائها ، ودفن بزاويته المشهورة بحومة البليدة " . اهـ .

أما من ترجم له من أهل طريقته ؛ فلا يكاد يحصيهم العاد .

وُلِدَ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عام خمسين ومائة وألف 1150هـ . 1737م .. ببلدة عين ماضي بالجزائر مقر أسلافه ، فجده الرابع سيدي محمد بن سالم ، انتقل من قبيلة عبدة مع أسرته ، وموطنها المغرب الأقصى إلى بني تجانة ، وتزوج منهم ، وصار أولاده وأحفاده يُعرفون بالتجانيين .

وسيدي أحمد التجاني رضي الله عنه - وهو الشريف الحسني الأصيل -لم يعر لمسألة هذا النسب أي اهتمام ، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقظة ، لا مناماً : ﴿ أنت ولدي حقاً ، ونسبك إلى الحسن بن عليّ صحيح ﴾ .

كانت لعين ماضي أهمية علمية كبيرة ، إذ قام العلماء الأشراف الوافدين من المغرب بفتح الزوايا والرباطات العلمية ، وكان لآباء وأجداد الشيخ التجاني ،رضي الله عنه ، باع طويل في نشر الإسلام ، وتعاليمه الروحية والعلمية في هذه البلاد ، ومنها إلى بلاد شمال إفريقيا والصحراء ووسط إفريقيا .

ومما يؤكد علو كعب أسرته رضي الله عنه في العلم والمعرفة ؛ ما ذكره التاريخ من أن السيد محمد ابن المختار - أبا سيدي أحمد التجاني رضى الله عنهما - كان شيخاً كبيراً لزاوية عظيمة في عين ماضي ، وصفه سيدي علي حرازم برادة رضي الله عنه بأنه شيخ الإسلام وملاذ الأنام , أما أمه رضى الله عنهما : فهي السيدة عائشة بنت الولي الجليل سيدي محمد السنوسي التجاني الماضوي ، يذكر لها من الصلاح والولاية والمكانة العالية والمرتبة السنية .
 
أما أخوه السيد محمد رضي الله عنه المكنَّى بابن عمر ، فكان عالماً حافظاً للقرآن ، مشاركاً في علوم الشريعة, متقناً لعلوم الفرائض .

أما جده الثالث ؛ فهو أحمد بن محمد ، رضى الله عنهما ، العلامة ، عالم العلماء ، وأمير الأمراء ، صاحب الحال القوي ، والنور السني .

أما الرابع ؛ فهو محمد بن سالم رضي الله عنه ، الشيخ الولي ، المكين العلي ، ذو النور اللائح ، والجذب الواضح ، حتى كان إذا خرج من داره للمسجد يتبرقع، ولا يُرى وجهه إلا إذا دخل المسـجد ، ثم إذا رجع إلى داره عاد إلى ستر وجهه حتى يدخل لخلوته ، ولما سُئل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عن ذلك ، قال : إنه بلغ مرتبة الولاية ، ومن بلغها يصير كل من رأى وجهه رضي الله عنه لا يقدر على مفارقته طرفة عين ، وإن فارقه وانحجب عنه مات لحينه .

وكان سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه أوسط الأبناء لأمه وأبيه ، ونشأ بين أبوين صالحين شريفين ، نشأة عفاف وصلاح ، وكان رضي الله عنه أعجوبة الزمان في الذكاء ورجاحة العقل ، وكان رضي الله عنه شديد الحزم ، لا يريد أمراً إلا بدأه ، ولا يبتدئ شيئا إلا أتمه .

وكان رضي الله عنه كريم الأخلاق والخلال ، طيب النفس والفعال ، كثير الحياء والأدب ، حسن السمت ، طويل الصمت ، كثير القراءة ، معتاداً للتلاوة ،يعلوه الوقار إذا سكت ، والهيبة إذا نطق ، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين برواية ورش، على يد العلَّامة المقريء سيدي محمد بن حمو التجاني الماضوي ، والذي تتلمذ على شيخه العارف بالله سيدي عيسى بو عكاز الماضوي التجاني .

وكان مع صغر سنه قوي الظاهر والباطن ، كامل الأنوار والمحاسن ، وقد توفي أبوه وأمه في يوم واحد ، رضي الله عنهم أجمعين ، ودفنا بعين ماضي ، وكان سيدنا آنذاك لم يتجاوز الحادية عشر .

 

أما هيئته رضي الله عنه فكان أبيضاً مشرباً بحمرة ، معتدل القامـة ، أقنى الأنف ، أزج الحاجب ، أجلى الجبهة ،منور الشيبة ، ذو صوت جهوري ، وسمت بهي ، فصيح اللسان ، حلو البيان .

 

ظل رضي الله عنه يتعلم العلوم الأصولية والفرعية والأدبية ، واستمر في طلب العلم ببلاده ، حتى بلغ مرتبة أهلته للتدريس والإفتاء ، قبل أن يرحل رحلته الأولى إلى فاس ، ثم ما لبث وهو في عين ماضي أن مال إلى الزهد والإنعزال والتأمل ، وحُبِّب إليه التعبد وقيام الليل ، حتى إذا بلغ سن الرشد صار يدل على الله ، وينصح عباده ، وينصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لُقِّب بمحيي الدين ثم صار خليفة لوالده على الزاوية ، رغم صغر سنه ، إذ كان في السادسة عشر من عمره ، فأخذ يُدرِّس القرآن وعلوم السنة ، في زاوية والده ، خمس سنوات . 

 

لما بلغ من عمره المديد إحدى وعشرين سنة 1171هـ / 1758م رحل إلى فاس ( المدينة الإدريسية ) أول مرة ، فأخذ يحضر مجالس العلم من تفسير وحديث وفقه ، وحصل فيها على إجازات ، وصار يدخل في مساجلات ومناظرات مع كبار علماء فاس ، ودرس القراءات السبع المتواترة في جبل العلم .

- والتقى في مدينة وزَّان بالعارف بالله مولاي الطيب بن سيدي محمد بن مولاي عبد الله بن إبراهيم العلمي الوزَّاني ، وكان شيخـاً للطريقة الوزَّانية ، وأذن له مولاي الطيب في تلقين طريقته ، ولكنه امتنع .

- كما التقى في جبل الزبيب بالعارف بالله سيدي محمد بن الحسن الونجلي ، وأخبره بأنه سيدرك مقام القطب الكبير أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وأشار إليه بالرجوع إلى بلده .

- وفى مدينة فاس التقى بالولي الصالح سيدي عبد الله بن سيدي العربي المعنى الأندلسي ، وتكلم معه في عدة أمور ، ودعا له دعاءاً كثيراً .

- وفي تازة أخذ عن الولي الصالح الملامتي سيدي أحمد الطواش، ولَقَّنَهُ اسماً، وطلب منه لزوم الخلوة والوحدة والصبر حتى يفتح الله عليه ، فداوم سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه على هذه الأوراد ثم تركها

 - ثم أخذ الطريقة القادرية بفاس ، ولكنه مالبث أن تخلى عنها 

- تعرَّف على تعاليم الطريقة الناصرية ، عند لقائه بالولي الصالح سيدي أحمد بن عبد الله التزاني ، ثم تركها بعد حين .

-  أخذ الطريقة الصديقية المنسوبة للقطب الشهير سيدي أحمد الحبيب بن محمد الغماري السلجماسي الصديقي

- ثم عاد إلى بلدته عين ماضي ، ومرَّ في طريقه بالبلد الأبيض ، وهي قريبة من عين ماضي ، حيث التقى بالقطب الشهير سيدي عبد القادر بن محمد الأبيض ، فاختارها منزلاً وقراراً ، وانقطع فيها للعبادة والتدريس والإفادة لمدة خمس سنوات ، وهو بين زاوية سيدي عبد القادر ، وبين بلدته عين ماضي

 - ثم رحل إلى تلمسان 1186هـ / 1772م وغادرها في نفس السنة قاصداً زيارة بيت الله الحرام ، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وقد قارب عمره الأربعين .

 - فلما وصل إلى بلاد زواوه وهو في طريقه من الجزائر إلى تونس ، زار الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري ، ذو الصيت الواسع والزوايا الكبيرة والأتباع الكثيرين ، وأخذ عنه الطريقة الخلوتية .

-  ولما وصل إلى تونس في نفس السنة ، تعرَّف على بعض الأولياء ، منهم سيدي عبد الصمد الرحوي ، أحد مريدي قطب البلد الذي لا يسمح بأن يراه أحد ، وأبلغ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عن طريق رسول خاص أنه محبوب . ومكث سيدي أحمد التجاني  ضي الله عنه بتونس سنة ، بعضها بمدينة سوسة ، وبعضها بتونس العاصمة ، حيث قام بالإفتاء وتدريس عدة كتب ، منها كتاب « الحِكَم » لابن عطاء الله رضي الله عنه ، فذاع صيته ، وبلغ خبره إلى أمير البلاد ، الذي طلب منه الإقامة بتونس للتدريس والإفادة ، إلا أن سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه اعتذر عن ذلك ، وغادر البلاد 

- ثم وصل إلى مصر القاهرة بحراً ، وبمجرد وصوله ؛ شرع يبحث عن شيخها الأكبر في ذلك الوقت ؛ سيدي محمود الكردي ، المصري داراً وقراراً ،العراقي أصلاً ومنشأً ، لرؤيا رآها له في تونس , وعند لقائه به قال له الشيخ الكبير والولي الشهير : أنت محبوب عند الله في الدنيا وفي الآخرة ، فقال له سيدنا رضي الله عنه : من أين لك هذا ؟ قال له :من الله ، ثم قص عليه سيدنا رضي الله عنه الرؤيا التي رآها في تونس .

وكان يقول فيها لسيدي محمود الكردي : إني نحاس كل ذاتي .فقال له سيدي محمود فيها : وأنا أقلب نحاسك ذهباً . فلما قصها عليه قال له الشيخ الكردي : هو كما رأيت ، فما مطلبك ؟ . فقال له سيدنا رضي الله عنه : القطبانية العظمى . قال : ولك أكثر منها . قال له :عليك ؟ . قال : نعم .

- ثم توجه بحراً إلى البلد الحرام ، وكان وصوله إلى مكة المشرفة شهر شوال سنة سبع وثمانين ومائة وألف 1187هـ/1773م ، فسمع بالشيخ أبي العباس سيدي أحمد عبد الله الهندي ، الذي لم يكن له أيضاً إذن بملاقـاة أحد ، ورغم ذلك أخذ عنه سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه علوماً وأسراراً  وأنواراً بدون ملاقاة له ، إنما كان يراسله مع خادمه ، وهو الواسطة بينهما ، وقال له في رسائله : أنت وارث علمي وسري ومواهبي وأنواري ، فقال له خادمه : هذه مدة ثمانية عشر عاماً وأنا أخدمك ،ثم يأتي رجل من ناحية المغرب ، تقول : هو وارثي ! . فقال له :[يختص برحمته من يشاء] {ال عمرن:74} - لو كان لي بذلك اختيار ؛ لنفعت بذلك ولدي قبلك

- ثم توجه رضي الله عنه إلى المدينة المنورة ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، لزيارة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبعد الزيارة الشريفة ؛  تلاقى مع القطب الشهير  والعالم الكبير : أبي عبد الله سيدي محمد عبد الكريم الشهير بالسمان رضي الله عنه، وأذن له الشيخ السمان في جميع الأسماء ، وأخبره بما سيؤول إليه حاله ، وأنه هو القطب الجامع.

 

- وبعد أن أتم مناسك الحج والزيارة ؛ رجع بسلامة الله تعالى إلى مصر القاهرة ، حيث نزل عند الولي الكبير سيدي محمود الكردي ، وأراد الشيخ الكردي أن يلقن سيدنا الطريقة الخلوتية ، وإرشاد العباد بها ، والتربية بأورادها ، فامتنع سيدنا رضي الله عنه ، فقال له الشيخ : لقِّن الناس والضمان علي . فقال له : نعم . ثم دعا له  الشيخ الكردي رضي الله عنه . وقفل سيدنا عائداً إلى تونس.

 

- انتقل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عام1188هـ / 1774م من تونس إلى تلمسان  ، أمضى بها ثلاث سنوات في العبادة والمجاهدات ،وفي هذا العام التقى سيدنا بكاتب وخازن أسراره : سيدي محمد بن المشري الحسني السباعي السائحي التكرتي ، ولقنه الطريقة الخلوتية ، ومنذ التقائه به صار يؤمه في الصلاة وبأهله ، ويقوم مقامه في كتابة الأجوبة ، حتى سنة 1208هـ / 1794م وهي السنة التي بدأ فيها سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه يقوم بالإمامة بنفسه ، امتثالاً لأمر جده المصطفى صلى الله عليه وسلم

 

- وفي سنة 1191هـ / 1777م شد سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه الرحال من تلمسان إلى فاس - وهذه رحلته الثانية إليها - حيث قصد سيدنا زيارة مولانا إدريس الأزهر ، وفي الطريق التقى بسيدي علي حرازم برادة الفاسي لأول مرة ، ولقنه الطريقة الخلوتية ، وتوجها معاً إلى مدينة فاس ، حرسها الله من كل باس

 

- وبعد زيارة ضريح سيدي إدريس ؛ ودَّع سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه خليفته بفاس ، وقفل هو إلى تلمسان ، ثم غادرها سنة1196هـ / 1781م إلى قصر الشلالة ، وأقام هناك ثلاث سنوات ، توجه بعدها للإقامة بأبي سمغون ، واستقر بقصر أبي سمغون ،حيث ضريح الولي الكامل الذي سمي القصر باسمه ، وأقام بأبي سمغون أربع عشرة سنة ، حيث حصل فيها الفتح الكبير ، والولاية العظمى ، التي صبر وصابر من أجل الحصول عليها ،وفي خلال إقامته في أبي سمغون ؛ توجه مرة إلى توات الغربية ، لزيارة العارف بالله سيدي محمد بن الفضيل ، وتبادل معه بعض الأسرار .

 

- وتوجه- للمرة الثانية - إلى مدينة تازة وبها التقى بتلميذه وصاحبه العارف بالله سيدي محمد بن العربي الدمراوي التازي .

 

- وفي السنة الأولى من رحيله  رضي الله عنه إلى أبي سمغون حصل الفتح  للشيخ التجاني رضي الله عنه سنة1196هـ . فأذن له سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة ، لا مناماً ، في تلقين الخلق على العموم والإطلاق ، وعَيَّنَ له الورد الذي يلقنه، في سنة ست وتسعين ومائة وألف 1196هـ : عيَّن له مائة من الإستغفار ، ومائة من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رأس المائة وهو عام 1200هـ . زاده صلى الله عليه وسلم الكلمة المشرفة لا إله إلا الله .

 

- وأخبره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ، يقظة ، لا مناماً ، سنة ست وتسعين ومائة وألف ، بأنه - صلى الله عليه وسلم - هو مربيه وكافله ، وأنه لا يصله شيء من الله إلا على يديه ، وبواسطته صلى الله عليه وسلم ، وقال له : لا مِنَّة لمخلوق عليك من الأشياخ ، فأنا ممدك على التحقيق ، فاترك جميع ما  أخذت منهم ، والزم هذه الطريقة ، من غير خلوة، ولا اعتزال عن الناس ، حتي تصل مقامك الذي وُعِدت به ، وأنت على حالك ، من غير ضيق ولا حرج ، ولا كثرة مجاهدة .


-  وبعد تمكنه رضي الله عنه من الولاية ؛ توجه إلى عين ماضي ، حيث أسس الزاوية الأم بها ، وظل يتنقل بينها وبين أبي سمغون وتوات .


-  ولقد زار سيدي علي حرازم برادة شيخه - رضي الله عنه - بأبي سمغون عام 1203هـ / 1789م .


- ولما زاد الإقبال على الطريقة التجانية ، إقبالاً لا مثيل له ، وبدأ انتشار الطريقة انتشاراً كبيراً ، جعل من التجانية قوة حقيقية ، منذ سنة 1198هـ /1783م ، بدأ يقلق الحكومة التركية ، بل أدى بها إلى شن حملات عسكرية على عين ماضي ، وفرض إتاوة على الشيخ التجاني رضي الله عنه وأتباعه، مرة سنة 1199هـ/1784م ، وأخرى سنة 
-1202هـ/1787م ، مما سبب الضيق للشيخ التجاني رضي الله عنه ، وحمله على الرحيل إلى فاس مرة أخرى ، في 17 ربيع الأول سنة 1213هـ/1798م . 

حيث رحب به سلطانها ؛ السلطان سليمان ،وجميع رجال دولته وكبرائها ، وانخرطوا جميعا في سلك طريقته المباركة . حيث وجد السلطان سليمان أن روح وتعاليم الطريقة التجانية متمشية تماماً مع تعاليم الكتاب والسنة ، والرافضة لكل أشكال البدع .

وانظر إلى تأدبه الشديد مع الشيخ التجاني رضي الله عنه ، حيث يبعث إليه رسالة فيقول فيها ....بعد البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : « .....عوض والدنا ، سيدنا وشيخنا وقدوتنا المحمدي : أبو العباس سيدي أحمد ، أَحمدُ الله ، وأُصلي وأُسلِّم على نبيه الكريم .بلغنا مسطوركم الأبرك ، وحمدنا الله تعالى على ما خصنا به من رضى .....»

 في يوم الإثنين السادس من ربيع الثاني ، سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف 1213هـ/1798م.وصل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه إلى مدينة فاس ، التي أسس بها زاويته ، واتخذها مقراً لإقامته مقراً نهائياً ، وكان بصحبته سيدي علي حرازم رضي الله عنه ، بحيث أشرقت بمقدمه الكريم بقاع الأرض ، وعمت بركاته القطر المغربي بالطول والعرض ، واستقر به المقام ، وأخذ يعرج في المقامات ، ويترقى في الدرجات ، حتى انتهى إلى مقام الختمية ، وحصَّل الكتمية ، فرضي الله تبارك وتعالي عنه ، إذ أصبح هو مجدد القرن الثالث عشر الهجري بلا مراء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : [إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ ، مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا] (1) . وفي رواية لأبي داود : [المجَدِّدُ مِنَّا أَهْل البَيْتِ] .

وهناك انخرط في طريقته الكثير من المريدين من علماء وفقهاء ووزراء وعامة الناس ، ومن مدينة فاس انطلق إشعاع الطريقة التجانية ، ليعم باقي أنحاء المغرب من أقصاه إلى أقصاه ، وكذا تونس والصحراء ، والسودان الغربي .

1. رواه أبو داود والحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في المعرفة والتبريزي في مشكاة  المصابيح وابن عساكر في تاريخه والخطيب في تاريخ بغداد 

ونزل - أولاً - سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه ، بدار آباء وأجداد سيدي علي حرازم رضي الله عنه ، بحي درب الطويل رقم 20 ، وكان يلقي الدروس العلمية بمسجد الديوان، وبدأ نجمه رضي الله عنه يسطع، ويذيع صيته ، حتى وصل إلى حضرة السلطان سليمان ، فأثنى عليه في حضرته كل من الشيخ عبد القادر بن شقرون ، وكان أجلّ علماء وقته وقاضي قضاة عصره ، والشيخ العلامة العباس بن كيران ، أحد علماء الحضرة السليمانية ، وكان قاضياً بمكناس ،فقرر السلطان سليمان دعوة الشيخ التجاني رضي الله عنه ، ليحضر مجالسه السلطانية ، والكلام بين يديه ، فامتثل الشيخ رضي الله عنه لأمر السلطان ، وأظهر من العلوم العقلية والنقلية واللدنية ما أبهر الحضور ، وجعل المنكرين عليه يتراجعون عما هم فيه من الغرور .

ومما يدل على سعة علم سيدنا رضي الله عنه ، وتبحره في علم الظاهر ، وبلوغه درجة الإجتهاد فيه ؛هو أن الأمير مولانا سليمان - قدس الله روحه في الجنان - كان يجتمع بحضرته العلماء الأجلّة من فحول عصره ، للمذاكرة في العلوم وتدريسها وقراءة التفسير ، وكان في جملة من يحضر معه لذلك من الشيوخ الكبار ، الذين أخذ عنهم الأمير المذكور ؛ الشيخ الطيب بن كيران ، المتوفي في 14 فاتح عام 1227 هـ . والشيخ سيدي عبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقروني ، المتوفى 11 شعبان عام 1219 هـ . والشيخ السيد العباسي الشراييبـي من جملة الساردين المقرئين ، فاتفق أن حضر سيدنا رضي الله عنه معهم لما قدم لحضرة فاس ، وكان في ذلك اليوم لهم نصاب في سورة الناس من التفسير ، فشرع الشيخ الطيب بن كيران يتكلم على عادته بحضرة الأمير في ذلك المجمع الحفيل ، لمكانته في العلم الظاهر وعلم المعقول ، فأبدى وأعاد ، وظن أنه بما أبداه ليس له في العلم مثيل ، وأذعن له في ذلك الحاضرين ، ثم التفت الأمير إلى الشيخ رضي الله عنه ، وقال له : ماذا يقول الشيخ في هذه الآية ؟ فشرع سيدنا رضي الله عنه يتكلم في الآية الشريفة بما أبهر العقول ، في منقول ومعقول، إلى أن قال سيدنا رضي الله عنه في مسألة أطنب فيها الشيخ بن كيران، وأرعد فيها وأبرق ، وظن أن شأنه فيها لا يلحق ما حصله : ( ما ذكره هذا المفسر ليس بصواب ، وليس عليه معوَّل عند ذوي الألباب )

 فقال الشيخ الطيب : أتعترض علينا ، وقائل هذا فلان وفلان من المفسرين ؟ وأغلظ في القول , فقال له سيدنا رضي الله عنه بذلك المجلس الحفيل : ( ليس الكلام معك أنت ، ولا تكن كمن يحمل الأثقال ، وحمَّلوك ما لا تحمله , وإنما الكلام مع هؤلاء المفسرين)

ثم شرع سيدنا رضي الله عنه يبين وجه الصواب بالأدلة النقلية والعقلية ، إلى أن ظهر الحق لكل مرتاب ، وحصحص الحق وزهق الباطل ، وأقر بالتحقيق له كل مناضل , وقال كل من بالمجلس : والله إن هذا لهوالحق المبين ، وذلك كله بمرأى من الأمير ومسمع ، ثم انفض المجلس ، ولسان الشكر من المنصفين على سيدنا رضي الله عنه لاهج، ثم تكلم الأمير مع من بقى معه من الحاضرين ؛ وقال : أنتم تعلمون مقام سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه ، وجلالته في علم الظاهر ، أما علم الباطن ؛ فهو أبوه وأمه ، وهو ابنهما ، فماذا تقولون ؟ فقالوا : والله إن قوله الصواب ، وقد حصحص الحق .

وقد قال علامة تونس سيدي الشيخ محمد بن سليمان المناعي رضي الله عنه ، بعد اجتماعه بسيدنا رضي الله عنه : فالموفق الكامل يلتمس الأعذار لرعاع الناس ، فضلاً عن إمام مثل هذا ، فإنه بحر في علوم الشرع الظاهر لامثيل له فيما رأت عيني :

- يحفظ من كتب الفقه (مختصر ابن حاجب) ، و(مختصر الشيخ خليل) ، و(تهذيب البراذعي) ، عن ظهر قلب , حكى لي أنه يحفظ جميع ما سمع من سماع واحد . على مثل هذا يعترض من لا خبرة له بفرائض الوضوء !

- وأما كتب الحديث ؛ فيحفظ (صحيح البخاري) و(صحيح مسلم) و(الموطأ)عن ظهر قلبه . 

- وأما كتب التوحيد ؛ فهو نظير الغزالي في هذا الوقت . والقلوب بيد الله ، يصرِّفها كيف يشاء 

ولم تطل إقامة الشيخ التجاني رضي الله عنه عند أقارب الشيخ علي حرازم رضي الله عنه ، فقد أهدى أميرالمؤمنين ، مولاي سليمان ، دار المرايا - وهي دار معتبرة ، أنفق عليها السلطان نفقة عظيمة - أهداها إلى الشيخ التجاني رضي الله عنه ، ليسكنها مع أسرته ، ورتب له ما يكفيه .

وامتنع الشيخ رضي الله عنه في باديء الأمر حتى بيَّن له السلطان أنها ليست ملكاً للدولة ، ولكنها من ماله الخاص ، ولكنه لم يشعر بالراحة التامة إلا بعد أن وافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على سكناها ، شريطة أن يتصدق بقدر كرائها على الضعفاء والمساكين ، ففعل .

وظل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه يجتمع مع أصحابه ، لذكر الوظيفة ، ببـاب داره ، وتارة في بعض مساجد المدينة ، إلى أن أمره صلى الله عليه وسلم ببناءالزاوية ، فاشترى قطعة أرض بحي البليدة ، بفاس القديمة ، من ماله الخاص ، وهذه الأرض - قبل بناء الزاوية فيها - كانت مُهابة ، لا يستطيع أحد أن يدخلها وحده من الهيبة ، وكان يُسمع فيها في بعض الأحيان ذكر جماعي ، يقصده عدد كبير من مجاذيب فاس .

كما اشترى الشيخ رضي الله عنه ما جاورها من الأرض ، ليصبح في الإمكان الزيادة في مساحة الزاوية إن لزم الأمر .

ووقف الحاسدون والمنكرون أمام الشيخ رضي الله عنه رافضين لبناء الزاوية 

ففكر الشيخ رضي الله عنه في مغادرة فاس والتوجه إلى الشام ، ولما علم السلطان سليمان بموقف هؤلاء المنكرين ، واعتراضهم على بناء الزاوية ، أصدر أوامره ببنائها رغم أنف المنكرين ، كما بعث قدراً كبيراً من المال ليساعد في بناء الزاوية ، فردها سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بلطف، وقال : إن الزاوية أمرها قائم بإذن الله . وتم بناء الزاوية وتشييدها خلال سنة 1215هـ/1800م . وأخبر الشيخ رضي الله عنه بأهمية هذا الإنجاز وبركته :

فقال : ( لو علم أكابر العارفين ما في الزاوية من الفضل لضربوا عليها خيامهم ) .
وكان يقول رضي الله عنه  : ( الصلاة في الزاوية مقبولة قطعاً ).